فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الطلاق فِيها خمْسُ آياتٍ:
الْآيةُ الْأُولى قوله تعالى: {يأيُّها النّبِيُّ إذا طلّقْتُمْ النِّساء فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ وأحْصُوا الْعِدّة واتّقُوا الله ربّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن إلّا أنْ يأْتِين بِفاحِشةٍ مُبيِّنةٍ وتِلْك حُدُودُ الله ومنْ يتعدّ حُدُود الله فقدْ ظلم نفْسهُ لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا}
فِيها سِتّ عشْرة مسْألة:
المسألة الْأُولى: فِي سببِ نُزُولِها:
وفِيهِ قولانِ: أحدُهُما أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم طلّق حفْصة، فلمّا أتتْ أهْلها أنْزل الله الْآية.
وقِيل لهُ: راجِعْها فإِنّها صوّامةٌ قوّامةٌ، وهِي مِنْ أزْواجِك فِي الْجنّةِ.
الثّانِي: أنّها نزلتْ فِي عبْدِ الله بْنِ عُمر أوْ عبْدِ الله بْنِ عمْرٍو، وعُييْنة بْنِ عمْرٍو، وطُفيْلِ بْنِ الْحارِثِ، وعمْرِو بْنِ سعِيدِ بْنِ الْعاصِ.
وهذا كُلُّهُ وإِنْ لمْ يكُنْ صحِيحا فالْقول الْأوّلُ أمْثلُ.
والْأصحُّ فِيهِ أنّها بيانٌ لِشرْعٍ مُبْتدإٍ.
المسألة الثّانِيةُ:
قوله تعالى: {يأيُّها النّبِيُّ}: فِيهِ قولانِ: أحدُهُما أنّهُ خِطابٌ للنّبِيِّ عليه السلام بِلفْظِ الْإِفْرادِ على الْحقِيقةِ لهُ، وقولهُ: {طلّقْتُمْ} خبرٌ عنْهُ على جِهةِ التّعْظِيمِ بِلفْظِ الْجمْعِ.
الثّانِي: أنّهُ خِطابٌ للنّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والْمُرادُ بِهِ أُمّتُهُ، وغاير بيْن اللفْظيْنِ مِنْ حاضِرٍ وغائِبٍ وذلِك لُغةٌ فصِيحةٌ.
كما قال: {حتّى إذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وجريْن بِهِمْ بِرِيحٍ طيِّبةٍ}: تقْدِيرُهُ يأيُّها النّبِيُّ قُلْ لهُمْ إذا طلّقْتُمْ النِّساء فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ.
وهذا هُو قولهُمْ: إنّ الْخِطاب لهُ وحْدهُ لفْظا، والْمعْنى لهُ وللمُؤْمِنِين.
وإِذا أراد الله الْخِطاب للمُؤْمِنِين لاطفهُ بِقولهِ: يأيُّها النّبِيُّ.
وإِذا كان الْخِطابُ بِاللفْظِ والْمعْنى جمِيعا لهُ قال: يأيُّها الرّسُولُ.
وقِيل: الْمُرادُ بِهِ نِداءُ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تعْظِيما، ثُمّ ابْتدأ فقال: {إذا طلّقْتُمْ النِّساء} كقولهِ: {يأيُّها الّذِين آمنُوا إنّما الْخمْرُ والْميْسِرُ والْأنْصابُ والْأزْلامُ}؛ فذكر الْمُؤْمِنِين على معْنى تقْدِمتِهِمْ وتكْرِمتِهِمْ، ثُمّ افْتتح فقال: {إنّما الْخمْرُ والْميْسِرُ والْأنْصابُ والْأزْلامُ} الْآيةُ.
قال الْقاضِي: الصّحِيحُ أنّ معْناها: يأيُّها النّبِيُّ إذا طلّقْت أنْت والْمُخْبرُون الّذِين أخْبرْتُهُمْ بِذلِك النِّساء فلْيكُنْ طلاقُهُنّ كذا؛ وساغ هذا لمّا كان النّبِيُّ يقْضِي مُنبّأ.
وهذا كثِيرٌ فِي اللغةِ صحِيحٌ فِيها.
المسألة الثّالِثةُ:
قوله تعالى: {لِعِدّتِهِنّ} يقْتضِي أنّهُنّ اللاتِي دخل بِهِنّ مِنْ الْأزْواجِ؛ لِأنّ غيْر الْمدْخُولِ بِهِنّ خرجْن بِقولهِ: {يأيُّها الّذِين آمنُوا إذا نكحْتُمْ الْمُؤْمِناتِ ثُمّ طلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قبْلِ أنْ تمسُّوهُنّ فما لكُمْ عليْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تعْتدُّونها}.
المسألة الرّابِعةُ: قولهُ: {لِعِدّتِهِنّ}.
قِيل: الْمعْنى فِي عِدّتِهِنّ، واللامُ تأْتِي بِمعْنى فِي؛ قال الله تعالى: {يا ليْتنِي قدّمْت لِحياتِي} أيْ فِي حياتِي.
وهذا فاسِدٌ حسْبما بيّنّاهُ فِي رِسالةِ الْمُلْجِئةِ.
وإِنّما الْمعْنى فِيهِ: فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ الّتِي تُعْتبرُ.
واللامُ على أصْلِها، كما تقول: افْعلْ كذا لِكذا، ويكُونُ مقْصُودُ الطّلاقِ والِاعْتِدادِ مآلهُ الّذِي ينْتهِي إليْهِ، وكذلِك قوله تعالى: {يا ليْتنِي قدّمْت لِحياتِي} يعْنِي حياة الْقِيامةِ الّتِي هِي الْحياةُ الْحقِيقِيّةُ الدّائِمةُ.
المسألة الْخامِسةُ: ما هذِهِ الْعِدّةُ؟
فقال مالِكٌ والشّافِعِيُّ: هُو زمانُ الطُّهْرِ.
وقال أبُو حنِيفة: هُو زمانُ الْحيْضِ.
وقدْ بيّنّا ذلِك فِي سُورةِ الْبقرةِ.
ولمّا أراد الله تعالى أنْ يُبيِّن أنّها الطُّهْرُ قرأها النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لِقُبُلِ عِدّتِهِنّ تفْسِيرا} لا قرآنا، رواهُ ابْنُ عُمر، وابْنُ مسْعُودٍ، وابْنُ عبّاسٍ، وثبت فِي الصّحِيحيْنِ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوايةِ ابْنِ عُمر: أنّهُ طلّق امْرأتهُ وهِي حائِضٌ، فذكر ذلِك عُمرُ لِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فتغيّظ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مُرْهُ فلْيُراجِعْها، ثُمّ يُمْسِكْها حتّى تحِيض، ثُمّ تطْهُر، ثُمّ تحِيض فتطْهُر؛ فإِنْ بدا لهُ أنْ يُطلِّقها فلْيُطلِّقْها طاهِرا قبْل أنْ يمسّها؛ فتِلْك الْعِدّةُ الّتِي أمر الله أنْ يُطلّق لها النِّساءُ».
وهذا بالِغٌ قاطِعٌ، لِأجْلِ هذا قال عُلماؤُنا وهِي:
المسألة السّادِسةُ:
أنّ الطّلاق على ضرْبيْنِ: سُنّةٌ وبِدْعةٌ، واخْتُلِف فِي تفْسِيرِهِ، فقال عُلماؤُنا: طلاقُ السُّنّةِ ما جمع سبْعة شُرُوطٍ؛ وهِي أنْ يُطلِّقها واحِدة، وهِي ممن تحِيضُ، طاهِرا لمْ يمسّها فِي ذلِك الطُّهْرِ، ولا تقدّمهُ طلاقٌ فِي حيْضٍ، ولا تبِعهُ طلاقٌ فِي طُهْرٍ يتْلُوهُ، وخلا عنْ الْعِوضِ؛ وهذِهِ الشُّرُوطُ السّبْعةُ مُسْتقرآتٌ مِنْ حديث ابْنِ عُمر الْمُتقدِّمِ، حسْبما بيّنّاهُ فِي شرْحِ الْحديث ومسائِلِ الْفِقْهِ.
وقال الشّافِعِيُّ: طلاقُ السُّنّةِ أنْ يُطلِّقها فِي كُلِّ طُهْرٍ طلْقة، ولوْ طلّقها ثلاثا فِي طُهْرٍ لمْ يكُنْ بِدْعة.
وقال أبُو حنِيفة: طلاقُ السُّنّةِ أنْ يُطلِّقها فِي كُلِّ قُرْءٍ طلْقة.
يُقال ذلِك لِفِقْهٍ يتحصّلُ؛ وهُو: أنّ السُّنّة عِنْدنا فِي الطّلاقِ تُعْتبرُ بِالزّمانِ والْعددِ.
وفارق مالِكٌ أبا حنِيفة بِأنّ مالِكا قال: يُطلِّقُها واحِدة فِي طُهْرٍ لمْ يمسّها فِيهِ، ولا يتْبعُهُ طلاقٌ فِي الْعِدّةِ، ولا يكُونُ الطُّهْرُ تالِيا لِحيْضٍ وقع فِي الطّلاقِ؛ لِقول النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فلْيُراجِعْها، ثُمّ لِيُمْسِكْها حتّى تحِيض، ثُمّ تطْهُر، ثُمّ تحِيض فتطْهُر؛ فتِلْك الْعِدّةُ الّتِي أمر الله أنْ يُطلّق لها النِّساءُ».
وقال الشّعْبِيُّ: يجُوزُ أنْ يُطلِّقها فِي طُهْرٍ جامعها فِيهِ.
وتعلّق الشّافِعِيُّ بِظاهِرِ قولهِ: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} وهذا عامٌّ فِي كُلِّ طلاقٍ، كان واحِدة أوْ اثْنتيْنِ.
وإِنّما راعى الله سبحانه الزّمان فِي هذِهِ الْآيةِ ولمْ يعْتبِرْ الْعدد، وهذِهِ غفْلةٌ عنْ الْحديث الصّحِيحِ فإِنّهُ قال فِيهِ: مُرْهُ فلْيُراجِعْها، وهذا يدْفعُ الثّلاث.
وفِي الْحديث أنّهُ قال: أرأيْت لوْ طلّقْتها ثلاثا؟ قال لهُ: حرُمتْ عليْك، وبانتْ مِنْك بِمعْصِيةٍ.
وقال أبُو حنِيفة: ظاهِرُ الْآيةِ يدُلُّ على أنّ الطّلاق الثّلاث والْواحِدة سواءٌ.
وهُو مذْهبُ الشّافِعِيِّ: ولوْلا قولهُ بعْد ذلِك: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا}.
وهذا يُبْطِلُ دُخُول الثّلاثِ تحْت الْآيةِ.
وكذلِك قال أكْثرُ الْعُلماءِ، وهُو نمطٌ بدِيعٌ لهُمْ.
وأمّا مالِكٌ فلمْ يخْف عليْهِ إطْلاقُ الْآيةِ كما قالوا، ولكِنّ الْحديث فسّرها كما قُلْنا وبيانُهُ التّامُّ فِي شرْحِ الْحديث وكُتُبِ الْمسائِلِ.
وأمّا قول الشّعْبِيِّ: إنّهُ يجُوزُ طلاقٌ فِي طُهْرٍ جامع فِيهِ فيرُدُّهُ حديث ابْنِ عُمر بِنصِّهِ ومعْناهُ، أمّا نصُّهُ فقدْ قدّمْناهُ.
وأمّا معْناهُ فلِأنّهُ إذا مُنِع مِنْ طلاقِ الْحائِضِ لِعدمِ الِاعْتِدادِ بِهِ فالطُّهْرُ الْمُجامعُ فِيهِ أوْلى بِالْمنْعِ؛ لِأنّهُ يسْقُطُ الِاعْتِدادُ بِهِ وبِالْحيْضِ التّالِي لهُ.
المسألة السّابِعةُ:
قولهُ: {وأحْصُوا الْعِدّة}: معْناهُ احْفظُوها؛ تقْدِيرُهُ احْفظُوا الْوقْت الّذِي وقع فِيهِ الطّلاقُ، حتّى إذا انْفصل الْمشْرُوطُ مِنْهُ وهُو الثّلاثةُ قُرُوءٍ فِي قولهِ: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} حلّتْ للأزْواجِ.
وهذا يدُلُّ على أنّ الْعِدّة هِي بِالْأطْهارِ وليْستْ بِالْحيْضِ.
ويُؤكِّدُهُ ويُفسِّرُهُ قراءة النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لِقُبُلِ عِدّتِهِنّ.
وقُبُلُ الشّيْءِ بعْضُهُ لُغة وحقِيقة، بِخِلافِ اسْتِقْبالِهِ فإِنّهُ يكُونُ غيْرهُ.
المسألة الثّامِنةُ:
منْ الْمُخاطبُ بِأمْرِ الْإِحْصاءِ؛ وفِيهِ ثلاثةُ أقْوالٍ:
أحدُها أنّهُمْ الْأزْواجُ.
الثّانِي: أنّهُمْ الزّوْجاتُ.
الثّالِثُ: أنّهُمْ الْمُسْلِمُون.
والصّحِيحُ أنّ الْمُخاطب بِهذا اللفْظِ الْأزْواجُ؛ لِأنّ الضّمائِر كُلّها مِنْ {طلّقْتُمْ} {وأحْصُوا} و{لا تُخْرِجُوهُنّ} على نِظامٍ واحِدٍ يرْجِعُ إلى الْأزْواجِ، ولكِنّ الزّوْجاتِ داخِلةٌ فِيهِ بِالْإِلْحاقِ بِالزّوْجِ؛ لِأنّ الزّوْج يُحْصِي لِيُراجِع، ويُنْفِق أوْ يقْطع، ولِيُسْكِن أوْ يُخْرِج، ولِيُلْحِق نسبهُ أوْ يقْطع.
وهذِهِ كُلُّها أُمُورٌ مُشْتركةٌ بيْنهُ وبيْن الْمرْأةِ، وتنْفرِدُ الْمرْأةُ دُونهُ بِغيْرِ ذلِك.
وكذلِك الْحاكِمُ يفْتقِرُ إلى الْإِحْصاءِ للعِدّةِ للفتْوى عليْها وفصْلُ الْخُصُومةِ عِنْد الْمُنازعةِ فِيها؛ وهذِهِ فوائِدُ الْإِحْصاءِ الْمأْمُورِ بِهِ.
المسألة التّاسِعةُ:
فِيما لا يتِمُّ الْإِحْصاءُ إلّا بِهِ وهُو معْرِفةُ أسْبابِ الْعِدّةِ، ومحِلِّها، وأنْواعِها: فأمّا أسْبابُها فأرْبعةٌ: وهِي الطّلاقُ، والْفسْخُ، والْوفاةُ، وانْتِقال الْمِلْكِ.
والْمِلْكُ والْوفاةُ مذْكُورانِ فِي القرآن، والْفسْخُ محْمُولٌ على الطّلاقِ؛ لِأنّهُ فِي معْناهُ، أوْ هُو هُو.
والِاسْتِبْراءُ مذْكُورٌ فِي السُّنّةِ، وليْس بِعِدّةٍ؛ لِأنّهُ حيْضةٌ واحِدةٌ، وسُمِّيتْ مُدّةُ الِاسْتِبْراءِ عِدّة لِأنّها مُدّةٌ ذاتُ عددٍ تُعْتبرُ بِحِلٍّ وتحْرِيمٍ.
وأمّا محِلُّها فهِي الْحُرّةُ والْأمةُ.
وأمّا أنْواعُها فهِي أرْبعةٌ: ثلاثةُ أقراء، كما قال الله تعالى فِي سُورةِ الْبقرةِ، وثلاثةُ أشْهُرٍ. ووضْعُ الْحمْلِ، كما جاء فِي هذِهِ السُّورةِ. وسنةٌ كما جاء فِي السُّنّةِ، فهذِهِ جُمْلتُها، وفِيها تفاصِيلُ عظِيمةٌ بِاخْتِلافِ الْأسْبابِ وتعارُضِها، واخْتِلافُ أحْوالِ النِّساءِ، والتّدخُّلُ الطّارِئُ عليْها، والْعوارِضُ اللاحِقةُ لها، بيانُها فِي مسائِلِ الْفِقْهِ.
ومحْصُولُها اللائِقُ بِهذا الْفنِّ الّذِي تصدّيْنا لهُ أرْبعةُ أقْسامٍ: الْقِسْمُ الْأوّلُ: الْمُعْتادةُ.
الْقِسْمُ الثّانِي مُتأخِّرٌ حيْضُها لِعُذْرٍ.
الْقِسْمُ الثّالِثُ: الصّغِيرةُ.
الْقِسْمُ الرّابِعُ الْآيِسةُ.
فأمّا الْمُعْتادةُ فعِدّتُها ثلاثةُ قُرُوءٍ؛ وتحِلُّ إذا طعنتْ فِي الْحيْضةِ الثّالِثةِ؛ لِأنّ الْأطْهار هِي الأقراء، وقدْ كمُلتْ ثلاثة.
وأمّا منْ تأخّر حيْضُها لِمرضٍ؛ فقال مالِكٌ، وابْنُ الْقاسِمِ، وعبْدُ الله، وأصْبغُ: تعْتدُّ تِسْعة أشْهُرٍ، ثُمّ ثلاثة.
وقال أشْهبُ: هِي كالْمُرْضِعِ بعْد الْفِطامِ بِالْحيْضِ أوْ بِالسّنةِ، وقدْ طلّق حِبّانُ بْنُ مُنْقِذٍ امْرأتهُ وهِي تُرْضِعُ فمكثتْ سنة لا تحِيضُ لِأجْلِ الرّضاعِ، ثُمّ مرِض حِبّانُ، فخاف أنْ ترِثهُ إنْ مات فخاصمها إلى عُثْمان، وعِنْدهُ علِيٌّ وزيْدٌ، فقالا: نرى أنْ ترِثهُ؛ لِأنّها ليْستْ مِنْ الْقواعِدِ، ولا مِنْ الصِّغارِ؛ فمات حِبّانُ، فورِثتْهُ، واعْتدّتْ عِدّة الْوفاةِ.
ولوْ تأخّر الْحيْضُ لِغيْرِ مرضٍ ولا رضاعٍ فإِنّها تنْتظِرُ سنة لا حيْض فِيها: تِسْعة أشْهُرٍ ثُمّ ثلاثة؛ فتحِلُّ ما لمْ ترْتبْ بِحمْلٍ، فإِنْ ارْتابتْ بِحمْلٍ أقامتْ أرْبعة أعْوامٍ أوْ خمْسة أوسبْعة على اخْتِلافِ الرِّواياتِ عنْ عُلمائِنا.
ومشْهُورُها خمْسةُ أعْوامٍ؛ فإِنْ تجاوزتْها حلّتْ.
وقال أشْهبُ: لا تحِلُّ أبدا حتّى تنْقطِع عنْها الرِّيبةُ؛ وهُو الصّحِيحُ؛ لِأنّهُ إذا جاز أنْ يبْقى الْولدُ فِي بطْنِها خمْسة أعْوامٍ جاز أنْ يبْقى عشْرة وأكْثر مِنْ ذلِك.
وقدْ رُوِي عنْ مالِكٍ مِثْلُهُ.
وأمّا الّتِي جُهِل حيْضُها بِالِاسْتِحاضةِ ففِيها ثلاثةُ أقْوالٍ: الْأوّلُ: قال ابْنُ الْمُسيِّبِ: تعْتدُّ سنة؛ وهُو مشْهُورُ قول عُلمائِنا.
وقال ابْنُ الْقاسِمِ: تعْتدُّ ثلاثة أشْهُرٍ بعْد تِسْعةٍ.
وقال الشّافِعِيُّ فِي أحدِ أقْوالِهِ: عِدّتُها ثلاثةُ أشْهُرٍ، وهُو قول جماعةٍ مِنْ التّابِعِين والْمُتأخِّرِين مِنْ الْقروِيِّين، وهُو الصّحِيحُ عِنْدِي.
وأمّا الْمُرْتابةُ فقاسها قوْمٌ عليْها، والصّحِيحُ أنّها تبْقى أبدا حتّى تزُول الرِّيبةُ.
وأمّا الصّغِيرةُ فعِدّتُها ثلاثةُ أشْهُرٍ كيْفما كانتْ حُرّة، أوْ أمة؛ مُسْلِمة، أوْ كِتابِيّة فِي الْمشْهُورِ عِنْدنا.
وقال ابْنُ الْماجِشُونِ: إنْ كانتْ أمة فعِدّتُها شهْرٌ ونِصْفٌ، وقال آخرُون: شهْرانِ.
والصّحِيحُ أنّ الْحيْضة الْواحِدة تدُلُّ على براءةِ الرّحِمِ، والثّانِية تعبُّدٌ؛ فلِذلِك جُعِلتْ قرأيْنِ على النِّصْفِ مِنْ الْحُرّةِ على ما تقدّم فِي سُورةِ الْبقرةِ، فانْظُرْهُ هُنالِك مُجرّدا.
وأمّا الْأشْهُرُ فإِنّها دلِيلٌ على براءةِ الرّحِمِ لِأجْلِ تقْدِيرِ الْمُدّةِ الّتِي يخْلُقُ الله فِيها الْولد، وهذا تسْتوِي فِيهِ الْحُرّةُ والْأمةُ.
ويُعارِضُهُ أنّ عِدّة الْوفاةِ عِنْدهُمْ شهْرانِ، وخمْسُ ليالٍ، وأجلُ الْإِيلاءِ شهْرانِ، وأجلُ الْعُنّةِ نِصْفُ عامٍ.
والْأحْكامُ مُتعارِضةٌ.
وأمّا الْآيِسةُ فهِي مِثْلُها، وإِذا أشْكل حالُ الْيائِسةِ كالصّغِيرةِ لِقُرْبِ السِّنِين وغيْرِهِما مِنْ الْجِهتيْنِ فإِنّ عِدّتها ثلاثةُ أشْهُرٍ، ولا يُعْتبرُ بِالدّمِ إلّا أنْ ترْتاب مع الْأشْهُرِ فتذْهب بِنفْسِها إلى زوالِ الرِّيبةِ.
المسألة الْعاشِرةُ:
قوله: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن} جعل الله للمُطلّقةِ الْمُعْتدّةِ السُّكْنى فرْضا واجِبا وحقّا لازِما هُو لله سبحانه وتعالى، لا يجُوزُ للزّوْجِ أنْ يُمْسِكهُ عنْها، ولا يجُوزُ لها أنْ تُسْقِطهُ عنْ الزّوْجِ، وهذِهِ مسْألةٌ عسِيرةٌ على أكْثرِ الْمذاهِبِ.
قال مالِكٌ: لِكُلِّ مُطلّقةٍ السُّكْنى، كان الطّلاقُ واحِدا أوْ ثلاثا.
وقال قتادةُ وابْنُ أبِي ليْلى: لا سُكْنى إلّا للرّجْعِيّةِ.
وقال الضّحّاكُ: لها أنْ تتْرُك السُّكْنى، فجعلهُ حقّا لها، وظاهِرُ القرآن أنّ السُّكْنى للمُطلّقةِ الرّجْعِيّةِ؛ لِقوله تعالى: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا}.
وإِنّما عرفْنا وُجُوبهُ لِغيْرِها مِنْ دلِيلٍ آخر بيّنّاهُ فِي مسائِلِ الْخِلافِ وشرْحِ الْحديث، وذكرْنا التّحْقِيق فِيهِ.
وأمّا قول الضّحّاكِ فيرُدُّهُ قول الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن} وهذا نصٌّ.
الْمسْألةُ الْحادِية عشْرة:
قولهُ: {مِنْ بُيُوتِهِنّ} إضافةُ إسْكانٍ، وليْستْ إضافة تمْلِيكٍ، كقوله تعالى: {واذْكُرْن ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنّ مِنْ آياتِ الله والْحِكْمةِ} وقدْ بيّنّا ذلِك فِي سُورةِ الْأحْزابِ.
وقولهُ: {لا تُخْرِجُوهُنّ} يقْتضِي أنْ يكُون حقّا على الْأزْواجِ، ويقْتضِي قولهُ: {ولا يخْرُجْن} أنّهُ حقٌّ على الزّوْجاتِ.
المسألة الثّانِية عشْرة:
ذكر الله الْإِخْراج والْخُرُوج عامّا مُطْلقا، ولكِنْ روى مُسْلِمٌ عنْ جابِرٍ أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أذِن لِخالتِهِ فِي الْخُرُوجِ فِي جِذاذِ نخْلِها.
وفِي صحِيحِ الْبُخارِيِّ ومُسْلِمٍ معا، قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفاطِمة بِنْتِ قيْسٍ وكان زوْجُها طلّقها آخِر ثلاثِ تطْلِيقاتٍ: «لا نفقة لك ولا سُكْنى».
وقالتْ عائِشةُ: لا خيْر لها فِي ذِكْرِ هذا الْحديث.
وفِي مُسْلِمٍ: قالتْ فاطِمةُ لِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: أخافُ أنْ يُقْتحم عليّ قال: «اُخْرُجِي».
وفِي الْبُخارِيِّ عنْ عائِشة: كان فِي مكان وحِشٍ، فخِيف عليْها.
وقال مرْوانُ: حيْثُ عِيب عليْهِ نقْلُ بِنْتِ عبْدِ الرّحْمنِ بْنِ الْحكمِ حِين طلّقها يحْيى بْنُ سعِيدِ بْنُ الْعاصِ.
وذكر حديث فاطِمة إنْ كان بِك الشّرُّ فحسْبُك ما بيْن هذيْنِ مِنْ الشّرِّ.
وثبت فِي الصّحِيحِ أنّ عُمر قال فِي حديث فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ: لا ندعُ كِتاب الله ولا سُنّة نبِيِّنا لِقول امْرأةٍ لا تدْرِي أحفِظتْ أمْ نسِيتْ.
فأنْكر عُمرُ وعائِشةُ حديث فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ؛ لكِنّ عُمرُ ردّهُ بِعُمُومِ القرآن، وردّتْهُ عائِشةُ بِعِلّةِ توحُّشِ مكانِها، وقدْ قِيل: إنّهُ لمْ يُخصِّصْ عُمُوم القرآن بِخبرِ الْواحِدِ، وقدْ بيّنّا ذلِك فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وفِي الصّحِيحِ أنّ فاطِمة بِنْت قيْسٍ قالتْ: بيْنِي وبيْنكُمْ كِتابُ الله قال الله تعالى: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا}؛ فأيُّ أمْرٍ يحْدُثُ بعْد الثّلاثِ.
فتبيّن أنّ الْآية فِي تحْرِيمِ الْإِخْراجِ والْخُرُوجُ إنّما هُو فِي الرّجْعِيّةِ، وصدقتْ.
وهكذا هُو فِي الْآيةِ الْأُولى، ولكِنّ ذلِك فِي الْمبْتُوتةِ ثبت مِنْ الْآيةِ الْأُخْرى؛ وهُو قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} حسْبما يأْتِي بيانُهُ إنْ شاء الله تعالى.
وجاء مِنْ هذا أنّ لُزُوم الْبيْتِ للمُعْتدّةِ شرْعٌ لازِمٌ، وأنّ الْخُرُوج للحدثِ والْبذاءِ والْحاجةِ إلى الْمعاشِ وخوْفِ الْعوْرةِ مِنْ السّكنِ جائِزٌ بِالسُّنّةِ. والله أعْلمُ.
المسألة الثّالِثة عشْرة:
فِي صِفةِ الْخُرُوجِ: أمّا الْخُرُوجُ لِخوْفِ الْبذاءِ والتّوحُّشِ والْحاجةِ إلى الْمعاشِ؛ فيكُونُ انْتِقالا محْضا.
وأمّا الْخُرُوجُ للتّصرُّفِ للحاجاتِ فيكُونُ بِالنّهارِ دُون الليْلِ؛ إذْ لا سبِيل لها إلى الْبيْتِ عنْ منْزِلِها، وإِنّما تخْرُجُ بِالْإِسْفارِ وترْجِعُ قبْل الْإِغْطاشِ وتُمكّنُ فحْمةُ الليْلِ؛ قال مالِكٌ: ولا تفْعلُ ذلِك دائِما.
وإِنّما أذِن لها فِيهِ إنْ احْتاجتْ إليْهِ، إنّما يكُونُ خُرُوجُها، فِي الْعِدّةِ كخُرُوجِها فِي النِّكاحِ؛ لِأنّ الْعِدّة فرْعُ النِّكاحِ، لكِنّ النِّكاح يقِفُ الْخُرُوجُ فِيهِ على إذْنِ الزّوْجِ، ويقِفُ فِي الْعِدّةِ على إذْنِ الله؛ وإِذْنُ الله إنّما هُو بِقدْرِ الْعُذْرِ الْمُوجِبِ لهُ بِحسبِ الْحاجةِ إليْهِ.
المسألة الرّابِعة عشْرة:
لمّا قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن} وكان هذا فِي الْمُطلّقةِ الرّجْعِيّةِ كما بيّنّا كانتْ السُّكْنى حقّا عليْهِنّ لله، وكانتْ النّفقةُ حقّا على الْأزْواجِ، فسقطتْ بِترْكِهِنّ وكان ذلِك دلِيلا على أنّ النّفقة مِنْ أحْكامِ الرّجْعةِ، والسُّكْنى مِنْ حُقُوقِ الْعِدّةِ.
المسألة الْخامِسة عشْرة:
قولهُ: {إلّا أنْ يأْتِين بِفاحِشةٍ}: اخْتلف النّاسُ فِي ذلِك على أرْبعةِ أقْوالٍ: الْأوّلُ: أنّهُ الزِّنا.
الثّانِي: أنّهُ الْبذاءُ؛ قالهُ ابْنُ عبّاسٍ وغيْرُهُ.
الثّالِثُ: أنّهُ كُلُّ معْصِيةٍ.
واخْتارهُ الطّبرِيُّ.
الرّابِعُ: أنّهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْبيْتِ؛ واخْتارهُ ابْنُ عُمر.
فأمّا منْ قال: إنّهُ الْخُرُوجُ للزِّنا فلا وجْه لهُ؛ لِأنّ ذلِك الْخُرُوج هُو خُرُوجُ الْقتْلِ والْإِعْدامِ، وليْس ذلِك بِمُسْتثْنى فِي حلالٍ ولا حرامٍ.
وأمّا منْ قال: إنّهُ الْبذاءُ فهُو مُعْتبرٌ فِي حديث فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ.
وأمّا منْ قال: إنّهُ كُلُّ معْصِيةٍ فوهْمٌ؛ لِأنّ الْغيْبة ونحْوها مِنْ الْمعاصِي لا تُبِيحُ الْإِخْراج ولا الْخُرُوج.
وأمّا منْ قال: إنّهُ الْخُرُوجُ بِغيْرِ حقٍّ فهُو صحِيحٌ.
وتقْدِيرُ الْكلامِ: لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن شرْعا إلّا أنْ يخْرُجْن تعدِّيا.
وتحْقِيقُ الْقول فِي الْآيةِ أنّ الله تعالى أوْجب السُّكْنى، وحرّم الْخُرُوج والْإِخْراج تحْرِيما عامّا، وقدْ ثبت فِي الْحديث الصّحِيحِ ما بيّنّاهُ، ورتّبْنا عليْهِ إيضاح الْخُرُوجِ الْممنوعِ مِنْ الْجائِزِ. والله أعْلمُ.
المسألة السّادِسة عشْرة:
قولهُ: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا}: قال جمِيعُ الْمُفسِّرِين: أراد بِالْأمْرِ هاهُنا الرّغْبة فِي الرّجْعةِ، ومعْنى الْقول: التّحْرِيضُ على طلاقِ الْواحِدةِ، والنّهْيُ عنْ الثّلاث؛ فإِنّهُ إذا طلّق ثلاثا أضرّ بِنفْسِهِ عِنْد النّدمِ على الْفِراقِ، والرّغْبةِ فِي الِارْتِجاعِ، ولا يجِدُ عِنْد إرادةِ الرّجْعةِ سبِيلا.
وكما أنّ قولهُ: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} فِيهِ الْأمْرُ بِالطّلاقِ فِي طُهْرٍ لمْ يُجامِعْ فِيهِ لِئلّا يضُرّ بِالْمرْأةِ فِي تطْوِيلِ الْعِدّةِ، فكذلِك قولهُ: {لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} فِيهِ النّهْيُ عنْ طلاقِ الثّلاثِ، لِئلّا تفُوت الرّجْعةُ عِنْدما يحْدُثُ لهُ مِنْ الرّغْبةِ.
الْآيةُ الثّانِيةُ قوله تعالى: {فإِذا بلغْن أجلهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنّ بِمعْرُوفٍ وأشْهِدُوا ذويْ عدْلٍ مِنْكُمْ وأقِيمُوا الشّهادة لله}: فِيها ثلاث عشْرة مسْألة:
المسألة الْأُولى:
قولهُ: {فإِذا بلغْن أجلهُنّ} يعْنِي قاربْن بُلُوغ أجلِهِنّ يعْنِي الْأجل الْمُقدّر فِي انْقِضاءِ الْعِدّةِ.
والْعِبارةُ عنْ مُقاربةِ الْبُلُوغِ بِالْبُلُوغِ سائِغٌ لُغة ومعْلُومٌ شرْعا.
ومِنْهُ ما ثبت فِي الصّحِيحِ أنّ ابْن أُمِّ مكْتُومٍ كان لا يُنادِي حتّى يُقال لهُ أصْبحْت يعْنِي قاربْت الصُّبْح، ولوْ كان لا يُنادِي حتّى يرى وكِيلُهُ الصُّبْح عليْهِ، ثُمّ يُعْلِمُهُ هُو، فيرْقى على السّطْحِ بعْد ذلِك يُؤذِّنُ لكان النّاسُ يأْكُلُون جُزْءا مِنْ النّهارِ بعْد طُلُوعِ الْفجْرِ، فدلّ على أنّهُ إنّما كان يُقال لهُ: أصْبحْت أيْ قاربْت، فيُنادِي فيُمْسِكُ النّاسُ عنْ الْأكْلِ فِي وقْتٍ ينْعقِدُ لهُمْ فِيهِ الصّوْمُ قبْل طُلُوعِ الْفجْرِ، أوْ معهُ.
وفِي معْناهُ قول الشّمّاخِ:
وتشْكُو بِعيْنٍ ما أكلّ رِكابُها ** وقِيل الْمُنادِي أصْبح الْقوْمُ أدْلِجْ

يعْنِي قارب الْقوْمُ الصّباح.
المسألة الثّانِيةُ:
قولهُ: {فأمْسِكُوهُنّ} يعْنِي بِالرّجْعةِ، أوْ فارِقُوهُنّ، وهِي:
المسألة الثّالِثةُ:
معْناهُ أوْ اُتْرُكُوهُنّ على حُكْمِ الطّلاقِ الْأوّلِ؛ فيقعُ الْفِراقُ عِنْد انْقِضاءِ الْعِدّةِ بِالطّلاقِ الْماضِي لِترْكِ الْإِمْساكِ بِالرّجْعةِ؛ إذْ قدْ وقع الْفِراقُ بِهِ؛ وإِنّما لهُ الِاسْتِدْراكُ بِالتّمسُّكِ بِالتّصْرِيحِ بِالرّجْعةِ الْمُناقِضِ للتّصْرِيحِ بِالطّلاقِ، وسُمِّي التّمادِي على حُكْمِ الْفِراقِ وترْكِ التّمسُّكِ بِالتّصْرِيحِ بِالرّجْعةِ فِراقا مجازا.
المسألة الرّابِعةُ:
قولهُ: {بِمعْرُوفٍ}: فِيهِ قولانِ: أحدُهُما بِمعْلُومٍ مِنْ الْإِشْهادِ.
الثّانِي: الْقصْدُ إلى الْخلاصِ مِنْ النِّكاحِ عِنْد تعذُّرِ الْوصْلةِ مع عدمِ الْأُلْفةِ لا بِقصْدِ الْإِضْرارِ، حسْبما كان يفْعلُهُ أهْلُ الْجاهِلِيّةِ؛ كانُوا يُطلِّقُون الْمرْأة حتّى إذا أشْرفْت على انْقِضاءِ الْعِدّةِ أشْهد بِرجْعتِها حتّى إذا مرّ لِذلِك مُدّةٌ طلّقها هكذا، كُلّما ردّها طلّقها، فإِذا أشْرفتْ على انْقِضاءِ الْعِدّةِ راجعها، لا رغْبة؛ لكِنْ إضْرارا وإِذاية، فنُهُوا أنْ يُمْسِكُوا أوْ يُفارِقُوا إلّا بِالْمعْرُوفِ، كما تقدّم فِي سُورةِ الْبقرةِ فِي قولهِ: {ولا تُمْسِكُوهُنّ ضِرارا لِتعْتدُوا}.
وقولهِ: {فإِمْساكٌ بِمعْرُوفٍ أوْ تسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ}.
المسألة الْخامِسةُ:
قولهُ: {فإِذا بلغْن}: يُوجِبُ أنْ يكُون الْقول قول الْمرْأةِ فِي انْقِضاءِ الْعِدّةِ إذا ادّعتْ ذلِك فِيما يُمْكِنُ، على ما بيّنّاهُ فِي قولهِ: {ولا يحِلُّ لهُنّ أنْ يكْتُمْن ما خلق الله فِي أرْحامِهِنّ} فِي سُورةِ الْبقرةِ.
المسألة السّادِسةُ:
{فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ}: اخْتلف الْعُلماءُ فِيهِ كاخْتِلافِهِمْ فِي قولهِ: {وبُعُولتُهُنّ أحقُّ بِردِّهِنّ فِي ذلِك} وقدْ بيّنّاهُ فِي سُورةِ الْبقرةِ، تمامُهُ أنّ الزّوْج لهُ الرّجْعةُ فِي الْعِدّةِ بِلا خِلافٍ، والرّجْعةُ تكُونُ بِالْقول والْفِعْلِ عِنْدنا، وبِهِ قال أبُو حنِيفة والليْثُ.
وقال الشّافِعِيُّ: لا تصِحُّ إلّا بِالْقول.
وقدْ اخْتلف فِيهِ التّابِعُون قدِيما، بيْد أنّ عُلماءنا قالوا: إنّ الرّجْعة لا تكُونُ بِالْفِعْلِ، حتّى تقْترِن بِهِ النِّيّةُ، فيقْصِد بِالْوطْءِ أوْ الْقُبْلةِ الرّجْعة وبِالْمُباشرةِ كُلّها.
وقال أبُو حنِيفة والليْثُ: الْوطْءُ مُجرّدا رجْعةٌ، وهذا ينْبنِي على أصْلٍ، هُو:
المسألة السّابِعةُ:
هلْ الرّجْعِيّةُ مُحرِّمةُ الْوطْءِ أمْ لا؟ فعِنْدنا أنّها مُحرِّمةُ الْوطْءِ، وبِهِ قال ابْنُ عُمر وعطاءٌ.
وقال أبُو حنِيفة: وطْؤُها مُباحٌ، وبِهِ قال أحْمدُ فِي إحْدى رِوايتيْهِ.
واحْتجُّوا بِأنّهُ طلاقٌ لا يقْطعُ النِّكاح؛ فلمْ يُحرِّمْ الْوطْء، كما لوْ قال: إنْ قدِم زيْدٌ فأنْتِ طالِقٌ.
وهذا لا يصِحُّ؛ لِأنّ الطّلاق الْمُعلّق بِقُدُومِ زيْدٍ لمْ يقعْ، هذا طلاقٌ واقِعٌ فيجِبُ أنْ يُؤثِّر فِي تحْرِيمِ الْوطْءِ الْمقْصُودِ مِنْ الْعقْدِ، لاسيما وهِي جارِيةٌ بِهِ إلى بيْنُونةٍ خارِجةٍ عنْ الْعِصْمةِ؛ فإِذا ثبت أنّها مُحرِّمةُ الْوطْءِ فلابد مِنْ قصْدِ الرّدِّ، وحِينئِذٍ يصِحُّ معهُ الرّدُّ.
قال الشّافِعِيُّ: لا تكُونُ الرّجْعةُ بِالْفِعْلِ، وإِنّما تكُونُ بِالْقول ولا مُعْتمد لهُ مِنْ القرآن والسُّنّةِ، ولنا كُلُّ ذلِك؛ فأمّا القرآن فقولهُ: {فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ}؛ وهذا ظاهِرٌ فِي الْقول والْفِعْلِ؛ إذْ الْإِمْساكُ يكُونُ بِهِما عادة، ويكُونُ شرْعا، ألا ترى أنّ خِيار الْمُعْتقةِ يكُونُ إمْساكُها بِالْقول بِأنْ تقول: اخْترْت، وبِالْفِعْلِ بِأنْ تُمكِّن مِنْ وطْئِها، ولِذلِك قال تعالى: {وبُعُولتُهُنّ أحقُّ بِردِّهِنّ فِي ذلِك} والرّدُّ يكُونُ تارة بِالْقول، وتارة بِالْفِعْلِ.
ومِنْ عجِيبِ الْأمْرِ أنّ للشّافِعِيِّ قوليْنِ فِي قول الرّجُلِ للمُطلّقةِ الرّجْعِيّةِ أمْسكْتها، هلْ يكُونُ رجْعة أمْ لا؟ قال الْقاضِي أبُو مُظفّرٍ الطّبرِيُّ: لا يكُونُ رجْعة؛ لِأنّ اسْتِباحة الْوطْءِ لا تكُونُ إلّا بِلفْظيْنِ، وهُما قولهُ: راجعْت، أوْ رددْت، كما يكُونُ النِّكاحُ بِلفْظيْنِ وهُما قولهُ: زوّجْت، أوْ نكحْت، وهذا مِنْ ركِيكِ الْكلامِ الّذِي لا يلِيقُ بِمنْصِبِ ذلِك الْإِمامِ مِنْ وجْهيْنِ: أحدُهُما أنّهُ تحكُّمٌ.
والثّانِي أنّهُ لوْ صحّ أنْ يقِف على لفْظيْنِ لكان وُقُوفُهُ على لفْظيْ القرآن، وهُما رددْت وأمْسكْت اللذانِ جاءا فِي سُورةِ الْبقرةِ، وها هُنا أوْلى مِنْ لفْظِ راجعْت الّذِي لمْ يأْتِ فِي القرآن، بيْد أنّهُ جاء فِي السُّنّةِ فِي قول النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمر: «مُرْهُ فلْيُراجِعْها»، كما جاء فِي السُّنّةِ لفْظٌ ثالِثٌ فِي النِّكاحِ، وهُو فِي شأْنِ الْموْهُوبةِ؛ إذْ قال لهُ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اذْهبْ فقدْ ملكْتها بِما معك مِنْ القرآن»؛ فذكر النِّكاح بِلفْظِ التّمْلِيكِ.
المسألة الثّامِنةُ:
مِنْ قول عُلمائِنا كما تقدّم: إنّ الرّجْعة تكُونُ بِالْقول والْفِعْلِ مع النِّيّةِ، فلوْ خلا ذلِك فِي نِيّةٍ، أوْ كانتْ نِيّةٌ دُون قول أوْ فِعْلٍ ما حُكْمُهُ؟ قال أشْهبُ فِي كِتابِ مُحمّدٍ: إذا عرى الْقول أوْ الْفِعْلُ عنْ النِّيّةِ فليْسا بِرجْعةٍ.
وفِي الْمُدوّنةِ أنّ الْوطْء الْعارِي مِنْ نِيّةٍ ليْس بِرجْعةٍ، والْقول الْعارِي عنْ النِّيّةِ جعلهُ رجْعة؛ إذا قال: راجعْتُك وكُنْت هازِلا، فعلى قول علِيٍّ بِأنّ النِّكاح بِالْهزْلِ لا يلْزمُ فلا يكُونُ رجْعة؛ فإِنْ كانتْ رجْعة بِالنِّيّةِ دُون قول أوْ فِعْلٍ فحملهُ الْقروِيُّون على قول مالِكٍ فِي الطّلاقِ والْيمِينِ إنّهُ يصِحُّ بِالنِّيّةِ دُون قول، ولا يصِحُّ ذلِك حسْبما بيّنّاهُ فِي الْمسائِلِ الْخِلافِيّةِ؛ لِأنّ الطّلاق أسْرعُ فِي الثُّبُوتِ مِنْ النِّكاحِ.
المسألة التّاسِعةُ:
قولهُ: {وأشْهِدُوا ذويْ عدْلٍ مِنْكُمْ}: وهذا ظاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ بِمُطْلقِ الْأمْرِ عِنْد الْفُقهاءِ، وبِهِ قال أحْمدُ بْنُ حنْبلٍ فِي أحدِ قوليْهِ، والشّافِعِيُّ.
وقال مالِكٌ، وأبُو حنِيفة، وأحْمدُ، والشّافِعِيُّ فِي الْقول الْآخرِ: إنّ الرّجْعة لا تفْتقِرُ إلى الْقبُولِ، فلمْ تفْتقِرْ إلى الْإِشْهادِ، كسائِرِ الْحُقُوقِ، وخُصُوصا حِلُّ الظِّهارِ بِالْكفّارةِ.
وركّب أصْحابُ الشّافِعِيِّ على وُجُوبِ الْإِشْهادِ فِي الرّجْعةِ أنّهُ لا يصِحُّ أنْ يقول: كُنْت راجعْت أمْسِ، وأنا أُشْهِدُ الْيوْم؛ لِأنّهُ إشْهادٌ على الْإِقرار بِالرّجْعةِ؛ ومِنْ شرْطِ الرّجْعةِ الْإِشْهادُ عليْها، فلا تصِحُّ دُونهُ؛ وهذا فاسِدٌ مبْنِيٌّ على أنّ الْإِشْهاد فِي الرّجْعةِ تعبُّدٌ، ونحْنُ لا نُسلِّمُ فِيها ولا فِي النِّكاحِ.
بلْ نقول: إنّهُ موْضُوعٌ للتّوثُّقِ، وذلِك موْجُودٌ فِي الْإِقرار، كما هُو موْجُودٌ فِي الْإِنْشاءِ، وبيّنّاهُ فِي مسائِلِ الْخِلافِ.
المسألة الْعاشِرةُ:
وهِي فرْعٌ غرِيبٌ: إذا راجعها بعْد أنْ ارْتدّتْ لمْ تصِحّ الرّجْعةُ.
وقال الْمُزنِيّ: تصِحُّ لِعُمُومِ قولهِ: {فإِذا بلغْن أجلهُنّ} وهذا عامٌّ فِي كُلِّ زوْجةٍ مُسْلِمةٍ أوْ مُرْتدّةٍ؛ ولِأنّ الرّجْعة تصِحُّ فِي حالِ كوْنِها مُحرّمة بِالْإِحْرامِ والْحيْضِ، كذلِك الرِّدّةُ، وهذا فاسِدٌ؛ فإِنّ الرّجْعة اسْتِباحةُ فرْجٍ مُحرّمٍ، فلمْ تجُزْ مع الرِّدّةِ، كالنِّكاحِ؛ والْمُحرّمةُ والْحائِضُ ليْستا بِمُحرّمتيْنِ عليْهِ، فإِنّهُ تجُوزُ الْخلْوةُ بِهِما لِزوْجِهِما.
المسألة الْحادِية عشْرة:
لوْ قال بعْد الْعِدّةِ، كُنْت راجعْتها وصدّقتْهُ جاز، ولوْ أنْكرتْ حلفتْ، وذلِك فِي مسائِل الْخِلافِ مشْرُوحٌ، وهُو مبْنِيٌّ على الْقول بِإِعْمالِ الْإِقرار فِي الرّجْعةِ.
المسألة الثّانِية عشْرة:
قوله تعالى: {وأشْهِدُوا ذويْ عدْلٍ مِنْكُمْ}: وهذا يُوجِبُ اخْتِصاص الشّهادةِ على الرّجْعةِ بِالذُّكُورِ دُون الْإِناثِ؛ لِأنّ قولهُ: {ذويْ} مُذكّرٌ، ولِذلِك قال عُلماؤُنا: لا مدْخل لِشهادةِ النِّساءِ فِيما عدا الْأمْوال.
وقدْ بيّنّا ذلِك فِي سُورةِ الْبقرةِ.
المسألة الثّالِثة عشْرة:
قوله تعالى: {وأقِيمُوا الشّهادة لله}: يعْنِي لا تُضيِّعُوها ولا تُغيِّرُوها، وأْتُوا بِها على وجْهِها، وقدْ بيّنّا ذلِك فِي سُورةِ الْبقرةِ.
الْآيةُ الثّالِثةُ قوله تعالى: {واللائِي يئِسْن مِنْ الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنْ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} فِيها سِتُّ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
قوله تعالى: {واللائِي يئِسْن مِنْ الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنْ ارْتبْتُمْ}: وهذِهِ آيةٌ مُشْكِلةٌ، واخْتلف أصْحابُنا فِي تأْوِيلِها على ثلاثةِ أقْوالٍ:
الْأوّلُ أنّ معْناها إذا ارْتبْتُمْ.
وحُرُوفُ الْمعانِي يُبْدلُ بعْضُها مِنْ بعْضٍ، والّذِين قالوا هذا اخْتلفُوا فِي الْوجْهِ الّذِي رجعتْ فِيهِ إنْ بِمعْنى إذا، فمِنْهُمْ منْ قال: إنّ ذلِك راجِعٌ إلى ما رُوِي أنّ أُبيّ بْن كعْبٍ قال للنّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسُول الله؛ إنّ الله قدْ بيّن لنا عِدّة الْحائِضِ بِالأقراء فما حُكْمُ الْآيِسةِ والصّغِيرةِ؟ فأنْزل الله الْآية.
ومِنْهُمْ منْ قال وهُو الثّانِي: إنّ الله جعل عِدّة الْحائِضِ بِالأقراء، فمنْ انْقطع حيْضُها، وهِي تقْرُبُ مِنْ حدِّ الِاحْتِمالِ فواجِبٌ عليْها الْعِدّةُ بِالْأشْهُرِ بِهذِهِ الْآيةِ، ومِنْ ارْتفعتْ عنْ حدِّ الِاحْتِمالِ وجب عليْها الِاعْتِدادُ بِالْأشْهُرِ بِالْإِجْماعِ، لا بِهذِهِ الْآيةِ؛ لِأنّهُ لا رِيبة فِيها.
الثّالِثُ: قال مُجاهِدٌ: الْآيةُ وارِدةٌ فِي الْمُسْتحاضةِ؛ لِأنّها لا تدْرِي دم حيْضٍ هُو أوْ دم عِلّةٍ.
المسألة الثّانِيةُ:
فِي تحْقِيقِ الْمقْصُودِ: أمّا وضْعُ حُرُوفِ الْمعانِي إبْدالا بعْضُها مِنْ بعْضٍ فإِنّ ذلِك مما لا يجُوزُ.
وإِنْ اخْتلفُوا فِي حُرُوفِ الْخفْضِ؛ وإِنّما الْآيةُ وارِدةٌ على أنّ أصْل الْعِدّةِ موْضُوعٌ لِأجْلِ الرِّيبةِ؛ إذْ الْأصْلُ براءةُ الرّحِمِ، وترْتابُ لِشُغْلِهِ بِالْماءِ؛ فوُضِعتْ الْعِدّةُ لِأجْلِ هذِهِ الرِّيبةِ،
ولحِقها ضرْبٌ مِنْ التّعبُّدِ.
ويُحقِّقُ هذا أنّ حرْف (إن) يتعلّقُ بِالشّرْطِ الْواجِبِ، كما يتعلّقُ بِالشّرْطِ الْممكِنِ، وعلى هذا خُرِّج قولهُ: «وإِنّا إنْ شاء الله بِكُمْ لاحِقُون».
وقدْ بيّنّا ذلِك فِي ملْجئةِ الْمُتفقِّهِين إلى معْرِفةِ غوامِضِ النّحْوِيِّين واللغوِيِّين.
وأمّا حديث أُبيٍّ فغيْرُ صحِيحٍ، وقدْ روى ابْنُ الْقاسِمِ، وأشْهبُ، وعبْدُ الله بْنُ الْحكمِ عنْ مالِكٍ فِي قوله تعالى: {إنْ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ} يقول فِي شأْنِ الْعِدّةِ: إنّ تفْسِيرها: إنْ لمْ تدْرُوا ما تصْنعُون فِي أمْرِها فهذِهِ سبِيلُها. والله أعْلمُ.
المسألة الثّالِثةُ:
قوله تعالى: {واللائِي لمْ يحِضْن} يعْنِي الصّغِيرة، وعِدّتُها أيْضا بِالْأشْهُرِ؛ لِتعذُّرِ الأقراء فِيها عادة؛ والْأحْكامُ إنّما أجْراها الله على الْعاداتِ، فهِي تعْتدُّ بِالْأشْهُرِ، فإِذا رأتْ الدّم فِي زمنِ احْتِمالِهِ عِنْد النِّساءِ انْتقلتْ إلى الدّمِ، لِوُجُودِ الْأصْلِ.
فإِذا وُجِد الْأصْلُ لمْ يبْق للبدلِ حُكْمٌ، كما أنّ الْمُسِنّة إذا اعْتدّتْ بِالدّمِ، ثُمّ انْقطع عادتْ إلى الْأشْهُرِ.
روى سعِيدُ بْنُ الْمُسيِّبِ أنّ عُمر قال: أيُّما امْرأةٍ اعْتدّتْ حيْضة أوْ حيْضتيْنِ ثُمّ رفعتْها حيْضتُها فإِنّها تنْتظِرُ تِسْعة أشْهُرٍ، فإِنْ اسْتبان بِها حمْلٌ فذلِك وإِلّا اعْتدّتْ بعْد تِسْعةِ أشْهُرٍ ثلاثة أشْهُرٍ، ثُمّ حلّتْ، وأمر ابْنُ عبّاسٍ بِالتّربُّصِ سنة.
وقال الشّافِعِيُّ وأبُو حنِيفة: تبْقى إلى سِنِّ الْيأْسِ.
وقال عُلماؤُنا: تعْتدُّ سنة؛ وإِنْ كانتْ مُسِنّة وانْقطع حيْضُها وقال النِّساءُ: إنّ مِثْلها لا تحِيضُ اعْتدّتْ بِثلاثةِ أشْهُرٍ.
وأمّا قول أبِي حنِيفة والشّافِعِيِّ إنّها تبْقى إلى سِنِّ الْيأْسِ فإِنّ معْناهُ إذا كانتْ مُرْتابة بِحمْلٍ، وكذلِك قال أشْهبُ لا تحِلُّ أبدا حتّى تيْأس، وهُو الصّحِيحُ.
المسألة الرّابِعةُ:
قوله تعالى: {واللائِي لمْ يحِضْن} دلِيلٌ على أنّ للمرْءِ أنْ يُنْكِح ولدهُ الصِّغار؛ لِأنّ الله تعالى جعل عِدّة منْ لمْ يحِضْ مِنْ النِّساءِ ثلاثة أشْهُرٍ، ولا تكُونُ عليْها عِدّةٌ إلّا أنْ يكُون لها نِكاحٌ؛ فدلّ ذلِك على هذا الْغرضِ، وهُو بدِيعٌ فِي فنِّهِ.
المسألة الْخامِسةُ:
قوله تعالى: {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ}: هذا وإِنْ كان ظاهِرا فِي الْمُطلّقةِ لِأنّهُ عطف عليْها، وإِليْها رجع عقِب الْكلامِ، فإِنّهُ فِي الْمتوفى عنْها زوْجُها كذلِك لِعُمُومِ الْآيةِ، وحديث سُبيْعة فِي السُّنّةِ؛ والْحِكْمةُ فِيهِ أنّ براءة الرّحِمِ قدْ حصلتْ يقِينا، وقدْ بيّنّاهُ فِي سُورةِ الْبقرةِ.
المسألة السّادِسةُ:
إذا وضعتْ الْحامِلُ ما وضعتْ مِنْ علقةٍ أوْ مُضْغةٍ حلّتْ.
وقال الشّافِعِيُّ وأبُو حنِيفة: لا تحِلُّ إلّا بِما يكُونُ ولدا.
وقدْ تقدّم بيانُهُ، وأوْضحْنا أنّ الْحِكْمة فِي وضْعِ الله الْعِدّة ثلاثة أشْهُرٍ أنّها الْمُدّةُ الّتِي فِيها يُخْلقُ الْولدُ فوُضِعتْ اخْتِبارا لِشغْلِ الرّحِمِ مِنْ فراغِهِ.
الْآيةُ الرّابِعةُ قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ وائْتمِرُوا بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ وإِنْ تعاسرْتُمْ فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى} فِيها أرْبعُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ}: قال أشْهبُ عنْ مالِكٍ: يخْرُجُ عنْها إذا طلّقها، ويتْرُكُها فِي الْمنْزِلِ؛ لِقول الله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} فلوْ كان معها ما قال: أسْكِنُوهُنّ.
وروى ابْنُ نافِعٍ قال: قال مالِكٌ فِي قول الله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ} يعْنِي الْمُطلّقاتِ اللاتِي قدْ بِنّ مِنْ أزْواجِهِنّ، فلا رجْعة لهُمْ عليْهِنّ، وليْستْ حامِلا؛ فلها السُّكْنى ولا نفقة لها ولا كِسْوة؛ لِأنّها بائِنٌ مِنْهُ، لا يتوارثانِ ولا رجْعة لهُ عليْها.
وإِنْ كانتْ حامِلا فلها النّفقةُ والْكِسْوةُ والْمسْكنُ حتّى تنْقضِي عِدّتُها.
فأمّا منْ لمْ تبِنْ مِنْهُنّ فإِنّهُنّ نِساؤُهُمْ يتوارثْن، ولا يخْرُجْن إلّا أنْ يأْذن لهُنّ أزْواجُهُنّ ما كُنّ فِي عِدّتِهِنّ، ولمْ يُؤْمرُوا بِالسُّكْنى لهُنّ؛ لِأنّ ذلِك لازِمٌ لِأزْواجِهِنّ مع نفقتِهِنّ وكِسْوتِهِنّ، كُنّ حوامِل أوْ غيْر حوامِل، وإِنّما أمر الله بِالسُّكْنى للاتِي بِنّ مِنْ أزْواجِهِنّ؛ قال تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ}؛ فجعل عزّ وجلّ للحوامِلِ اللائِي قدْ بِنّ مِنْ أزْواجِهِنّ السُّكْنى والنّفقة.
المسألة الثّانِيةُ:
فِي بسْطِ ذلِك وتحْقِيقِهِ: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر السُّكْنى أطْلقها لِكُلِّ مُطلّقةٍ، فلمّا ذكر النّفقة قيّدها بِالْحمْلِ، فدلّ على أنّ الْمُطلّقة الْبائِن لا نفقة لها؛ وهِي مسْألةٌ عظِيمةٌ قدْ مهّدْنا سُبُلها قرآنا وسُنّة ومعْنى فِي مسائِلِ الْخِلافِ.
وهذا مأْخذُها مِنْ القرآن.
فإِنْ قِيل: لا حُجّة فِي هذِهِ الْآيةِ؛ لِأنّ قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} راجِعٌ إلى ما قبْلهُ، وهِي الْمُطلّقةُ الرّجْعِيّةُ.
قُلْنا: لوْ كان هذا صحِيحا لما قال: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ}؛ فإِنّ الْمُطلّقة الرّجْعِيّة يُنْفقُ عليْها حامِلا كانتْ أوْ غيْر حامِلٍ، فلمّا خصّها بِذِكْرِ النّفقةِ حامِلا دلّ على أنّها الْبائِنُ الّتِي لا يُنْفقُ عليْها.
وتحْقِيقُهُ أنّ الله تعالى ذكر الْمُطلّقة الرّجْعِيّة وأحْكامها حتّى بلغ إلى قوله تعالى: {ذويْ عدْلٍ مِنْكُمْ} ثُمّ ذكر بعْد ذلِك حُكْما يعُمُّ الْمُطلّقاتِ كُلّهُنّ مِنْ تعْدِيدِ الْأشْهُرِ وغيْرِ ذلِك مِنْ الْأحْكامِ، وهُو عامٌّ فِي كُلِّ مُطلّقةٍ؛ فرجع ما بعْد ذلِك مِنْ الْأحْكامِ إلى كُلِّ مُطلّقةٍ.
المسألة الثّالِثةُ:
قوله تعالى: {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ}: قدْ بيّنّا فِي سُورةِ الْبقرةِ شيْئا مِنْ مسائِلِ الرّضاعِ، ووضّحْنا أنّهُ يكُونُ تارة على الْأُمِّ، ولا يكُونُ عليْها تارة.
وتحْرِيرُهُ أنّ الْعُلماء اخْتلفُوا فِيمنْ يجِبُ عليْهِ رضاعُ الْولدِ على ثلاثةِ أقْوالٍ: الْأوّلُ: قال عُلماؤُنا: رضاعُ الْولدِ على الزّوْجةِ ما دامتْ الزّوْجِيّةُ، إلّا لِشرفِها أوْ مرضِها فعلى الْأبِ حِينئِذٍ رضاعُهُ فِي مالِهِ.
الثّانِي: قال أبُو حنِيفة والشّافِعِيُّ: لا يجِبُ على الْأُمِّ بِحالٍ.
الثّالِثُ: قال أبُو ثوْرٍ: يجِبُ عليْها فِي كُلِّ حالٍ.
ودلِيلُنا قوله تعالى: {والْوالِداتُ يُرْضِعْن أوْلادهُنّ حوْليْنِ كامِليْنِ لِمنْ أراد أنْ يُتِمّ الرّضاعة} وقدْ مضى فِي سُورةِ الْبقرةِ أنّهُ لفْظٌ مُحْتمِلٌ لِكوْنِهِ حقّا عليْها أوْ لها، لكِنّ الْعُرْف يقْضِي بِأنّهُ عليْها، إلّا أنْ تكُون شرِيفة، وما جرى بِهِ الْعُرْفُ فهُو كالشّرْطِ حسْبما بيّنّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أنّ الْعُرْف والْعادة أصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشّرِيعةِ يُقْضى بِهِ فِي الْأحْكامِ والْعادةُ إذا كانتْ شرِيفة ألّا تُرْضِع فلا يلْزمُها ذلِك.
فإِنْ طلّقها فلا يلْزمُها إرْضاعُهُ إلّا أنْ يكُون غيْر قابِلٍ ثدْي غيْرِها، فيلْزمُها حِينئِذٍ الْإِرْضاعُ؛ أوْ تكُون مُخْتارة لِذلِك فتُرْضِعُ فِي الْوجْهيْنِ بِالْأُجْرةِ لِقوله تعالى: {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ}.
ويُحقِّقُ ذلِك قوله تعالى: {وائْتمِرُوا بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} وهِي:
المسألة الرّابِعةُ:
فالْمعْرُوفُ أنْ تُرْضِع ما دامتْ زوْجة إلّا أنْ تكُون شرِيفة، وألّا تُرْضِع بعْد الزّوْجِيّةِ إلّا بِأجْرٍ.
فإِنْ قبِل غيْرها لمْ يلْزمْها، وإِنْ شاءتْ إرْضاعهُ فهِي أوْلى بِما يأْخُذُهُ غيْرُها.
الْآيةُ الْخامِسةُ قوله تعالى: {وإِنْ تعاسرْتُمْ فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله لا يُكلِّفُ الله نفْسا إلّا ما آتاها سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} فِيها خمْسُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
قوله تعالى: {وإِنْ تعاسرْتُمْ}: الْمعْنى أنّ الْمرْأة إذا امْتنعتْ مِنْ رضاعِهِ بعْد الطّلاقِ فغيْرُها تُرْضِعُ يعْنِي إنْ قبِل، فإِنْ لمْ يقْبلْ كما تقدّم لزِمها ولمْ ينْفعْها تعاسُرُها مع الْأبِ.
المسألة الثّانِيةُ:
قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ}: هذا يُفِيدُ أنّ النّفقة ليْستْ مُقدّرة شرْعا، وإِنّما تتقدّرُ عادة بِحسبِ الْحالةِ مِنْ الْمُنْفِقِ والْحالةُ مِنْ الْمُنْفقِ عليْهِ، فتُقدّرُ بِالِاجْتِهادِ على مجْرى الْعادةِ.
وقدْ فرض عُمرُ للمنْفُوسِ مِائة دِرْهمٍ فِي الْعامِ بِالْحِجازِ، والْقُوتُ بِها محْبُوبٌ، والْمِيرةُ عنْهُ بعِيدةٌ، وينْظُرُ الْمُفْتِي إلى قدْرِ حاجةِ الْمُنْفقِ عليْهِ، ثُمّ يُنْظرُ إلى حالةِ الْمُنْفِقِ؛ فإِنْ احْتملتْ الْحالةُ الْحاجة أمْضاها عليْهِ، وإِنْ قصُرتْ حالتُهُ عنْ حالةِ الْمُنْفقِ عليْهِ ردّها إلى قدْرِ احْتِمالِ حالِهِ لِقولهِ تعالى وهِي:
المسألة الثّالِثةُ:
{ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله لا يُكلِّفُ الله نفْسا إلّا ما آتاها}؛ فإِذا كان للعبْدِ ما يكْفِيهِ، ويفْضُلُ عنْهُ فضْلٌ أخذهُ ولدُهُ، ومنْ يجِبُ عليْهِ الْإِنْفاقُ؛ وإِنّما يبْدأُ بِهِ أوّلا، لكِنْ لا يرْتفِعُ لهُ؛ بلْ يُقدّرُ لهُ الْوسطُ، حتّى إذا اسْتوْفاهُ عاد الْفضْلُ إلى سِواهُ.
والْأصْلُ فِيهِ قول النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْد: «خُذِي ما يكْفِيك وولدك بِالْمعْرُوفِ»؛ فأحالها على الْكِفايةِ حِين علِم السّعة مِنْ حالِ أبِي سُفْيان الْواجِبِ عليْهِ بِطلبِها.
المسألة الرّابِعةُ:
فِي تقْدِيرِ الْإِنْفاقِ: قدْ بيّنّا أنّهُ ليْس لهُ تقْدِيرٌ شرْعِيٌّ، وإِنّما أحالهُ الله سبحانه على الْعادةِ، وهِي دلِيلٌ أُصُولِيٌّ بنى الله عليْهِ الْأحْكام، وربط بِهِ الْحلال والْحرام؛ وقدْ أحالهُ الله على الْعادةِ فِيهِ فِي الْكفّارةِ، فقال: {فكفّارتُهُ إطْعامُ عشرةِ مساكِين مِنْ أوْسطِ ما تُطْعِمُون أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوتُهُمْ}.
وقال: {فإِطْعامُ سِتِّين مِسْكِينا}.
وقدْ تكلّمْنا عليْهِ فِي موْضِعِهِ، وقدّرْنا للكبِيرِ نفقة لِشِبعِهِ وكِسْوتِهِ ومُلاءتِهِ.
وأمّا الصّغِيرُ الّذِي لا يأْكُلُ الطّعام فلِأُمِّهِ أجْرُها بِالْمِثْلِ إذا شطّتْ على الْأبِ، والْمُفْتُون مِنّا يُقدِّرُونها بِالطّعامِ والْإِدامِ، وليْس لها تقْدِيرٌ إلّا بِالْمِثْلِ مِنْ الدّراهِمِ لا مِنْ الطّعامِ.
وأمّا إذا أكل فيُفْرضُ لهُ قدْرُ مأْكلِهِ وملْبسِهِ على قدْرِ الْحالِ. كما قدّمْنا.
وفرض عُمرُ للمنْفُوسِ مِائة دِرْهمٍ، وفرض لهُ عُثْمانُ خمْسِين دِرْهما.
واحْتمل أنْ يكُون هذا الِاخْتِلافُ بِحسبِ حالِ السِّنِين، أوْ بِحسبِ حالِ الْقدْر فِي التّسْعِيرِ لِثمنِ الْقُوتِ والْملْبسِ.
وقدْ روى نافِعٌ عنْ ابْنِ عُمر أنّ عُمر كان لا يفْرِضُ للموْلُودِ حتّى يُطْعم، ثُمّ أمر مُنادِيا فنادى: لا تُعجِّلُوا أوْلادكُمْ عنْ الْفِطامِ، فإِنّا نفْرِضُ لِكُلِّ موْلُودٍ فِي الْإِسْلامِ.
وقدْ روى مُحمّدُ بْنُ هِلالٍ الْمُزنِيّ قال: حدّثنِي أبِي وجدّتِي أنّها كانتْ ترِدُ على عُثْمان ففقدها، فقال لِأهْلِهِ: مالِي لا أرى فُلانة؟ فقالتْ امْرأتُهُ: يا أمِير الْمُؤْمِنِين، ولدتْ الليْلة، فبعث إليْها بِخمْسِين دِرْهما وشُقيْقة أنْبِجانِيّة ثُمّ قال: هذا عطاءُ ابْنِك، وهذِهِ كِسْوتُهُ، فإِذا مرّتْ لهُ سنةٌ رفعْناهُ إلى مِائةٍ.
وقدْ أتى علِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ بِمنْبُوذٍ، ففرض لهُ مِائة.
وقال الْقاضِي: هذا الْفرْضُ قبْل الْفِطامِ مما اخْتلف فِيهِ الْعُلماءُ، فمِنْهُمْ منْ رآهُ مُسْتحبّا؛ لِأنّهُ داخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيةِ، ومِنْهُمْ منْ رآهُ واجِبا لِما تجدّد مِنْ حاجتِهِ وعرض مِنْ مُؤْنتِهِ، وبِهِ أقول؛ ولكِنْ يخْتلِفُ قدْرُهُ بِحالِهِ عِنْد الْوِلادةِ، وبِحالِهِ عِنْد الْفِطامِ.
وقدْ روى سُفْيانُ بْنُ وهْبٍ أنّ عُمر أخذ الْمُدّ بِيدٍ والْقِسْط بِيدٍ، وقال: إنِّي فرضْت لِكُلِّ نفْسٍ مُسْلِمةٍ فِي كُلِّ شهْرٍ مُدّيْ حِنْطةٍ وقِسْطيْ خلٍّ، وقِسْطيْ زيْتٍ.
زاد غيْرُهُ، وقال: إنّا قدْ أجزْنا لكُمْ أعْطِياتِكُمْ وأرْزاقكُمْ فِي كُلِّ شهْرٍ.
فمنْ انْتقصها فعل الله بِهِ كذا وكذا، ودعا عليْهِ.
قال أبُو الدّرْداءِ: كمْ سُنّةٍ راشِدةٍ مهْدِيّةٍ قدْ سنّها عُمرُ فِي أُمّةِ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم والْمُدُّ والْقِسْطُ كيْلانِ شامِيّانِ فِي الطّعامِ والْإِدامِ، وقدْ دُرِسا بِعُرْفٍ آخر؛ فأمّا الْمُدُّ فدُرِس إلى الْكِيلجةِ، وأمّا الْقِسْطُ فدُرِس إلى الْكيْلِ، ولكِنّ التّقْدِير فِيهِ عِنْدنا رُبْعانِ فِي الطّعامِ، وثُمُنانِ فِي الْإِدامِ، وأمّا الْكِسْوةُ فبِقدْرِ الْعادةِ قمِيصٌ وسراوِيلُ، وجُبّةٌ فِي الشِّتاءِ وكِساءٌ وإِزارٌ وحصِيرٌ.
وهذا الْأصْلُ، ويتزيّدُ بِحسبِ الْأحْوالِ والْعادةِ.
المسألة الْخامِسةُ:
هذِهِ الْآيةُ أصْلٌ فِي وُجُوبِ النّفقةِ للولدِ على الْوالِدِ دُون الْأُمِّ، خِلافا لِمُحمّدِ بْنِ الْموّازِ؛ إذْ يقول: إنّها على الْأبويْنِ على قدْرِ الْمِيراثِ، وبيانُها فِي مسائِلِ الْفِقْهِ والْخِلافِيّاتِ، ولعلّ مُحمّدا أراد أنّها على الْأُمِّ عِنْد عدمِ الْأبِ.
وفِي الْبُخارِيِّ، عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «تقول لك الْمرْأةُ أنْفِقْ عليّ وإِلّا طلِّقْنِي، ويقول الْعبْدُ: أنْفِقْ عليّ واسْتعْمِلْنِي، ويقول لك ابْنُك: أنْفِقْ عليّ إلى منْ تكِلُنِي؟ فقدْ تعاضد القرآن والسُّنّةُ وتواردا فِي مشْرعةٍ واحِدةٍ». والْحمْدُ لله. اهـ.